فصل: سنة ست عشرة ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة سبع ومائة

توفي سليمان بن يسارالمدني أحد فقهاء المدينة السبعة اخذ عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وروى عن الزهري وجماعة وكان سعيد بن المسيب إذا استفتاه أحد يقول اذهب إلى سليمان بن يسار فإنه أعلم من بقي اليوم وله إخوة مشهورون منهم عطاء بن يسار‏.‏

وفيها وقيل في سنة ثمان‏.‏

وقيل في سنة اثنتي عشرة ومائة‏.‏

وقيل إحدى وقيل اثنتين ومائة توفي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني الإمام نشأ في حجر عمته عائشة فأكثرمنها قال يحيى بن سعيد‏:‏ ما أدركنا أحداً تفضله بالمدينة على القاسم وعن أبي الزناد قال‏:‏ ما رأيت فقيهاً أعلم منه وقال ابن عيينة كان القاسم افضل زمانه وعن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ لو كان أمر الخلافة إلي لما عدلت عن القاسم واتفقوا على أنه من كبار سادات التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة الجلة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال‏:‏ انت أعلم أم سالم يعني سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فقال ذاك مبارك قال ابن إسحاق‏:‏ كره أن يقول هو أعلم فيكذب او يقول أنا أعلم فيزكي نفسه‏.‏

 سنة ثمان ومائة

فيها توفي أبو عبدالله المزني البصري الفقيه روى عن المغيرة بن شعبة وجماعة وفيها وقيل في سنة ست توفي أبو بصرة العبدي المنذر بن مالك أحد شيوخ البصرة اعا علياً وطلحة والكبار وقيل في سنة تسع ويزيد بن عبدالله بن الشخير عاش نحواً من تسعين سنة وكان ثقة جليل القدر لقي عمران بن حصين وجماعة وقيل بقي إلى سنة إحدى عشرة ومحمد بن كعب القرظي روى عن كبار الصحابة ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كثير العلم موصوفاً بالعلم والورع والصلاح‏.‏

 سنة تسع ومائة

فيها توفي أبو نجيح يسار المكي مولى ثقيف روى عن أبي سعيد وجماعة قال الإمام أحمد‏:‏ كان من خيار عباد الله وفيها توفي أبو الحارث بن أبي الأسود الديلي البصري روى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وجماعة‏.‏

 سنة عشر مائة

فيها توفي الإمام القدوة المجمع على جلالله وصلاحه وزهادته وفضله وأمانته أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وسمع خطبة عثمان رضي الله تعالى عنهما وشهد يوم الدار وكثرة شهرته تغني عن مدحته قال بعض أهل الطبقات كان جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً حجة مأموناً عابداً ناسكاً كثير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً رحمة الله عليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان من سادات التابعين وكبرائهم وجمع من كل من علم وزهد وورع وعبادة وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري وأمه مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما غابت أمه في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فتدر عليه فيروى ان تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك‏.‏

قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي‏.‏

فقيل له‏:‏ فأيهما كان أفصح قال‏:‏ الحسن‏.‏

وكان من أجمل أهل البصرة ولما ولي عمرو بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم‏:‏ ان يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليه الميثاق بطاعته وأخذ عهودنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أموره فأقلده ما يقلده من ذلك الأمر فقال ابن سيرين والشعبي‏:‏ قولاً فيه تقية‏.‏

فقال ابن هبيرة‏:‏ ما تقول يا حسن فقال‏:‏ يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله فإن الله يمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله ويوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصر إلى مضيق قبر ثم لا ينجيك إلا عملك‏.‏

يا ابن هبيرة اياك أن تعصي الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصر الدين الله وعباده فلا تتركن دين الله وعباده بهذا السلطان فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن فقال محمد بن سيرين والشعبي‏:‏ سفسفنا فسفسف لنا‏.‏

قلت‏:‏ السفاف الردي من العطية‏.‏

وروي أنه كتب عمربن عبد العزيز إلى الحسن رضي الله عنهما يقول له‏:‏ اني قد ابتليت بهذا الأمر فانظر لي أعواناً يعينوني عليه فكتب إليه الحسن كتاباً يقول في أثنائه‏:‏ اما أبناء الدنيا فلا تريدهم وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك فاستعن بالله والسلام‏.‏

ورأى الحسن يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة فسأل عنه فقيل‏:‏ انه يتمسخر للملوك ويحبونه فقال‏:‏ لله أبوه أو قال‏:‏ لله دره ما رأيت أحداً يطلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا قلت يعني أن الدنيا رذيلة فأخذها بالرذائل أنسب من أخذها بالفضائل وكان أكثر كلامه حكماً وبلاغة‏.‏

ولما حضرته الوفاة أغمي عليه قبل موته ثم أفاق فقال‏:‏ لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم وقال رجل كريم قبل موته لابن سيرين‏:‏ رأيت كأن طائراً أخذ حصاة بالمسجد فقال‏:‏ ان صدقت رؤياك مات الحسن فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن فتبع الناس جنازته فلم تقم صلاة العصر بالجامع وما علم أنها تركت فيه مذ كان الإسلام إلا يومئذ لأنهم تبعوا الجنازة حتى لم يبق من يصلي في المسجد قلت وله مع الحجاج وقعات عظيمة واجهه فيها بكلام صادع وسلمه الله من شره ومما روي من تفحيم الحجاج أنه جاء ذات يوم راكباً على برذون أصفر فأم الجامع فلما دخله رأى فيه حلقات متعددة فأم حلقة الحسن فلم يقم له بل وسع في المجلس فجلس إلى جنبه‏.‏

قال الراوي‏:‏ فقلنا‏:‏ اليوم ننظر إلى الحسن هل يتغير من عادته في كلامه وهيئته فلم يغير شيئاً من ذلك بل أخذ على نسق وأخذ عادته من غير زيادة ولانقص‏.‏

فلما كان في آخر المجلس قال الحجاج‏:‏ صدق الشيخ عليكم بهذه المجلس فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ‏"‏‏.‏

ولولا ما ابتلينا من هذا الأمر لم تغلبونا عليها او قال لم تسبقونا إليها ثم افترعن لفظ أعجب به الحاضرون ثم نهض فمشى طريقه‏.‏

وذكر أهل علم التعبير أن الحسن رأى كأنه لابس صوف وفي وسطه كستيج بضم الكاف وسكون السين المهملة وكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وفي آخره جيم وفي رجله قيد وعليه طيلسان عسلي وهو قائم على مزبلة وفي يده طنبورة يضربه وهو مستند إلى الكعبة فقصت رؤياه على ابن سيرين فقال‏:‏ اما لبسه الصوف فزهده وأما كستيجه فقوته في دين الله وأما عسيلته فحبه للقرآن وتفسيره للناس وأما قيده فثباته في ورعه وأما قيامه على المزبلة فدنياه جعله تحت قدميه اما ضرب طنبوره فنشره حكمته بين الناس وأما استناده إلى الكعبة فالتجاؤه إلى الله تعالى‏.‏

وأرى أيضاً في المنام كأنه عريان جرد لا يستحي من الناس وبيده سيف له بريق يضربه على أحجار وهو يشقها فأرسل من يقص رؤياه على ابن سيرين فقال أما تجرده فقلة ذنوبه واخلاصه بين الناس وأما سيفه فلسانه وكلمته وأما الأحجار فقلوب الناس وأما شقها فدخول موعظته وحكمته في قلوبهم والحسن البصري منسوب إلى البصرة والبصرة في الأصل بفتح الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة حجارة رخوة ترجع إلى البياض وبها سميت البصرة بصرة فإذا أسقطت الهاء قيل بصر بالكسر وإنما قالوا بالنسب بصري كذلك قاله ابن قتيبة وغيره‏.‏

والبصرتان‏:‏ البصرة والكوفة والكوفة قديمة جاهلية والبصرة حادثة إسلامية بناها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة أربع عشرة من الهجرة على يد عتبه بن غزوان‏.‏

وفيها توفي يوم الجمعة في شوال شيخ البصرة مع الحسن في أوانه وإمام المعبرين في زمانه أحد الجلة الورعين محمد بن سيربن كان إماماً يقتدى به سمع من أبي هريرة وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وروى عنه جماعة من الأئمة منهم قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة قال أيوب‏:‏ اريد على القضاء ففر إلى الشام وإلى اليمامة‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ ما رأيت أفقه في ورعه من محمد بن سيرين وقال هشام بن حسان‏:‏ حدثني أصدق من رأيت من البشر او قال من العالمين محمد بن سيرين وقال ابن عون‏:‏ لم أر مثل محمد بن سيرين‏.‏

وكان الشعبي يقول عليكم بذاك الأصم يعني ابن سيرين فإنه كان في إذنه صمم كان أبوه عبد أنس بن مالك رضي الله عنه كاتبه على أربعين ألف درهم وقيل عشرين ألفاً فأدى ما كوتب عليه وكانت أمه مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعون لها وحضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب وكان ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه وتوفي بعد الحسن بمائة يوم وكان قد حبس بدين كان عليه ذكر المعبرون أنه جاءه رجل يقال رأيت على ساقي رجل شعراً كثيراً فقال‏:‏ يركبه دين ويموت في السجن فقال له الرجل‏:‏ لك رأيت هذه الرؤيا فاسترجع‏.‏

قيل‏:‏ و مات في السجن وعليه أربعون ألف درهم قضى عنه ذلك بعض الصالحين وقيل كان عليه ثلاثون ألف درهم فقضاها ولده عبدالله فما مات عبدالله حتى قوم ماله ثلاث مائة ألف درهم وولد لابن سيرين ثلاثون ولداً من امرأة واحدة عربية ولم يبق منهم إلا عبدالله‏.‏

وحكي إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى فقالت‏:‏ يا أبا بكر رأيت رؤيا فقال لها‏:‏ تقصين أو تتركين حتى آكل فقالت‏:‏ بلى أتركك فلما فرغ قال لها‏:‏ قصي رؤياك‏.‏

فقالت‏:‏ رأيت القمر قد دخل في الثريا فناداني مناد أن أمضي إلى ابن سيرين فقصى عليه هذا قال‏:‏ فقبض ابن سيرين يده وقال‏:‏ و يلك كيف رأيت فأعادت عليه فاصفر وجهه وقام وهو آخذ ببطنه فقالت له أخته‏:‏ ما لك قال‏:‏ قد زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام قال فعدوا من ذلك اليوم سبعة أيام فدفن في اليوم السابع‏.‏

وحكي أنه جاء رجل فقال له‏:‏ اني رأيت طائراً سميناً ما أعرف ما هو وقد تدلى من السماء فوقع على شجرة وجعل يلتقط الزهر ثم طار فتغير وجه ابن سيرين وقال‏:‏ هذا ا موت العلماء فمات في ذلك العام الحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمة الله علبهما‏.‏

وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم التي أصدقها الديباج عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان ألف ألف درهم قلت وقد تقدم أن أختها سكينة تزوجها مصعب بن الزبير هي وعائشة بنت طلحة وأنه أصدق عائشة المذكورة مائة ألف دينار‏.‏

وفيها توفي جرير والفرزدق الشاعران الشهيران قال ابن خلكان‏:‏ كان جرير من فحول شعراء الإسلام وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة قال وهو أشعر من الفرزدق عند أكثرأهل العلم بهذا الشأن‏.‏وقال أجمعت العلماء أنه ليس في شعراء الإسلام أشعر من ثلاثة‏:‏ جرير والفرزدق والأخطل‏.‏

قال‏:‏ و يقال‏:‏ ان بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء وتشبيب وفي الأربعة فاق جرير غيره في الفخر قوله‏:‏

إذا غضبت عليك بنو تميم ** حسبت الناس كلهم غضابا

ويروى وجدت الناس‏.‏

وفي المديح قوله‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

وفي الهجاء قوله‏:‏

فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

إن العيون التي في طرفها حور يقتلننا ** ثم لا يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له ** وهن أضعف خلق الله أركانا

قلت قوله‏:‏ قد أجمعت العلماء على أنه ليس في شعر الإسلام مثل ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل ليس بصحيح بل الخلاف بينهم واقع وقد رجح كثير من المتآخرين بل أكدرهم قول ثلاثة آخر على الثلاثة المذكورين وهم أبو تمام والبحتري - والمتنبي - ثم اختلفوا أيضاً اختلافاً كثيراً في الثلاث المتآخرين ايهم أرجح وفصل بعضهم في التفضيل بينهم في أشياء يطول ذكرها وقد أوضحت ذلك في الشرح الموسوم بمنهل المفهوم المروي من صداء الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المتنبي إيضاح ذلك مشبعاً موصولاً ومفرعاً‏.‏

ومن أخبار جرير ما حكى صاحب الجليس والأنيس في كتابه أنه قيل لجرير‏:‏ ما كان أبوك صائغاً حيث يقول‏:‏ لو كنت أعلم أن آخرعهدهم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال‏:‏ كان يقلع عينيه ولا يرى مظعن أحبابه‏.‏

وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغانى في ترجمة جرير أنه قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة‏:‏ من أشعر الناس قال‏:‏ من إذا شبب لعب وإذا طلب جد فإذا لعب أطمعك لعبه وإذا رميته أو قال رمته بعد عنك وإذا جد فيما إن الذين غد وابليلي غادروا وشدا بعينك ما يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا ثم قال حين جد شعراً‏:‏ إن الذي حرم المكارم تغلبا جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم يا خزر تغلب من أب كأبينا هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلي قطينا قال‏:‏ فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله قال‏:‏ ما زادا ابن كذا وكذا على أن جعلني شرطياً له اما أنه لو قال‏:‏ لو شاء ساقكم إلي قطينا لسقتهم إليه كما قال‏.‏

قلت وهنا الانكار الذي أنكره عليه عبد الملك ظاهر حتى لقد أدركه ولدي عبد الرحمن وهو صغير حين أمليته على الكاتب ووصلت إلى قوله لو شئت أنكره وقال لو شاء ثم قال أرى أنه يحب أنه عنده عزيز يفعل له ما يشاء فأعجبني ذلك من نباهته بارك الله تعالى فيه ووفقنا جميعاً لما يرضيه‏.‏

وأبيات جرير المذكورات في مهاجاة الشاعر المذكور المشهور المعروف بالأخطل التغلبي وقوله‏:‏

جعل النبوة والخلافة فينا

لأنه تميمي النسب وتميم ترجع إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله يا خزر تغلب خزر بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي وبعدها راء هو جمع أخزر مثل أحمر وحمر والأخزر الذي في عينه ضيق وصغر وهذا الوصف موجود في العجم أو في بعضهم كما هو معروف في الترك وكأنه نسبه إلى غير العرب‏.‏

قالوا‏:‏ و هذا عند العرب من النقائص الشنيعة وقوله‏:‏ هذا ابن عمي في دمشق يريد بذلك عبد الملك بن مروان والقطين بفتح القاف الخدم والاتباع‏.‏

ومن أخبار جرير أيضاً أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده قصيدة أولها‏:‏

أتصحو أم فؤادك غير صاح ** عشية هم صحبك بالرواح

تقول العاذلات علاك شيب ** لهذا الشيب يمنعني مزاحي

تغرب أم حزرة ثم قالت ** رأيت الموردين ذوي اللقاح

ثقي بالله ليس له شريك ** ومن عند الخليفة يا لنجاح

سأشكر إن رددت إلي رئيتي ** وأثبت القوادم من جناح

ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

قال جرير‏:‏ فلما انتهيت إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئاً فاستوى جالساً وقال من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت ثم التفت إلي وقال يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم بني كلب فقلت يا أمير المؤمنين‏:‏ ان لم تروها فلا أرواها الله

قال‏:‏ فأمر بها لي كلها سود الحدق‏.‏

قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته والإبل أباق فلو أمرت لي بالرعاء فأمر لي بثمانية وكان بين يديه صحاف من الذهب وبيده قضيب فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين والمحلب وأشرت إلى أحد الصحاف فنبذها إلي بالقضيب وقال‏:‏ خذها لنفسك‏.‏

قالوا ولما مات الفرزدق بكى‏.‏

وقال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده ولقد كان نجمنا واحداً وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقال ما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه وكذلك كان وتوفي في سنة عشر ومائة التي فيها مات الفرزدق وكانت وفاته باليمامة ونيف في عمره على ثمانين سنة وهو جرير بن عطية ويكنى أبا حزرة بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء وعن أبي عمرو قال‏:‏ حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه فما رأيت أحسن ثقة بالله منه‏.‏

فلم أنشب أن قدم جرير من اليمامة فاجتمع إليه الناس فما أنشدهم ولا وجدوه كما عهدوه فقلت له في ذلك فقال‏:‏ اطفأ موت الفرزرق والله جمرتي وأسأل عبرتي وقرب مني منيتي ثم شخص إلى اليمامة فنعى لنا في شهر رمضان من تلك السنة وقيل كان عمر بن عبد العزيز لا يأذن لأحد من الشعراء أن يدخلوا عليه إلا لجرير‏.‏

وذكروا أنه أدينهم وأن أبا عمرو بن العلاء رأى في يده سبحة فقل له‏:‏ و يحك يا جرير أليس هذا خير لك من المهاجاة فقال‏:‏ و الله ما هجوت أحداً ابتداء‏.‏

وأما الفرزدق فهو أبو الأخطل همام بن غالب من جلة قومه وسراتهم يرجع في نسبه إلى مجاشع بن دارم وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس‏.‏

قيل له ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة‏.‏

من ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي وكان هو رئيس قومه وكان آخر يقال له سحيم بن وثيل بعد المثلثة مثناة من تحت الرياحي بالياء المثناة من تحت من بعد الراء رئيس قومه أيضاً فخرجوا إلى مكان على مسيرة يوم من الكوفة فعقر غالب لأهله ناقة وصنع منها طعاماً وأهوى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفانا من ثريد ووجه إلى سحيم جفنة فكفأها وضرب الذي أتاه بها وقال‏:‏ انا مفتقر إلى طعام غالب اذا نحر ناقة نحرت أنا آخرى فعقر ناقة لأهله‏.‏

فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين فعقر سحيم لأهله ناقتين فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثة فعقر سحيم ثلاثاً فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة ولم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً‏.‏

وأسرها في نفسه‏.‏

فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة قال بنو رياح لسحيم‏:‏ جررت علينا عار الدهر هلا نحرت مثل ما نحروا كنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين فاعتذر أن ابله كانت غائبة وعقر ثلاث مائة وقال للناس‏:‏ شأنكم ولا أكل كان ذلك على خلافة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فاستفتى في حل الأكل منها فقضى بحرمتها وقال‏:‏ هذي ذبحت لغير مأكلة ولم يكن المقصود منها إلا المفآخرة والمباهاة فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم‏.‏

وهي قصة مشهورة عمل فيه الشعراء أشعاراً كثيرة من ذلك قول جرير يهجو الفرزدق في قصيدة منها مذا البيت‏:‏

تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم ** بني ضعطر هلا الكمى المقنعا

يقول تفتخرون بالكرم هلا افتخرتم ** بالشجاعة وبينهما من المهاجاة

والتجاوب ما شاع في المشرق والمغرب‏.‏

وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجي له بها الرحمة في دار الآخرة وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر عليه لكثرة الزحام فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام فبينهما هو كذلك إذا أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً قلت بل أطيبهم وأشرفهم ذاتاً وطبعاً وأصلاً وفرعاً وطاف بالبيت فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم فقال رجل من أهل الشام‏:‏ من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام‏:‏ لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال‏:‏ انا أعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس فقال‏:‏

هذا الذي يعرف البطحاء وطأته ** والبيت يعرفه والحل والحرم

إذا رأته قريش قال قائلها ** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمي إلى ذروة العز الذي قصرت ** عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته ** عند الحطيم إذا ما جاء يستلم

في كفة خيزران ريحه عبق ** من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فما يكلم إلا حين يبتسم

يبين نور الهدى عن بدر غرته ** كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم

منشقة عن رسول الله نبعته ** طابت عناصره والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ** بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قد ما وعظمه ** جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضايره ** العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما ** تستوكفان ولا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره ** يزينه اثنان حسن الخلق والشيم

من معشر حبهم دين وبغضهم كفر ** وقربهم منجأ ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ** أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد يعد غايتهم ** ولا يداينهم قوم وإن كرموا هم

الغيوث إذا ما أزمة أزمت ** والأسد أسد الشرى الباس محتدم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ** في كل بدء مختوم به الكلم

يأبى لهم أن ينحل الذم ساحتهم ** خيم كريم وأيد بالندى هضم

من يعرف الله يعرف أولية ** ذا والدين من بيت هذا ناله الأمم

ما قال لاقط إلا في تشهده ** لولا التشهد كانت لاؤه نعم‏.‏

فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردها وقال‏:‏ ما مدحته إلا لله تعالى لا للعطاء فقال زين العابدين‏:‏ ‏"‏ إنا أهل البيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده ‏"‏ فقبلها الفرزدق‏.‏

وقوله في الأبيات ميمونة النقيبة أي مظفر بالمطلوب‏.‏

قالوا‏:‏ و صعد الوليد بن عبد الملك فسمع صوت ناقوس فقال‏:‏ ما هذا فقيل‏:‏ البيعة فأمر بهدمها وتولى نقض ذلك بيده فتتابع الناس يهدمون فكتب إليه الأخرم ملك الروم‏:‏ ان هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطأوا فقال‏:‏ من يجيبه فقال الفرزدق‏:‏ يكتب إليه ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً ‏"‏ - الأنبياء‏:‏ 78 و 79 -‏.‏

قلت وحكي أنه سأل بعض أهل العلم عن السبايا المزوجات من الكفار هل يحل لمن سباها وطيبها فأبطأ المسؤول في الجواب فأجاب الفرزدق بقوله‏:‏ وذات خليل أنكحتها رماحنا حلالاً لمن يبني بها لم يطلق وأخبار الفرزدق كثيرة ذات اشتهار والأولى عند خوف الإملال الاختصار وتوفي بالبصرة قبل جرير بأربعين وقيل ثمانين يوماً قال قتيبة‏:‏ و قد قارب المائة‏.‏

وقال المبرد‏:‏ التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة فقال الفرزدق للحسن أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن‏:‏ كلا لست بخيرهم ولست بشرهم ولكن ما أعددت لهذا اليوم قال شهادة أن لا إله إلا الله مذ ستين سنة‏.‏

وقيل إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والله أعلم بحقائق الأمور أوائلها وعواقبها وفي السنة المذكورة توفي سليم بن عامر الكلاعي الحمصي وقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى عن أبي الدرداء وغيره وتوفي فيها عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أخو الفقيه عبدالله امام زاهد قانت واعظ كثير العلم لقي ابن عباس والكبار‏.‏

فيها توفي عطية بن سعد العوفي الكوفي روى عن أبي هريرة وطائفة وضربه الحجاج أربع مائة سوط على أن يشتم علياً رضي الله تعالى عنه فلم يشتم‏.‏

وتوفي القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي روى عن أبي سعيد وعلقمة وكان عالماً نبيلاً زاهداً نجيباً‏.‏

 سنة اثنتي عشرة ومائة

فيها توفي أبو المقدام رجاء بن حيوة الكندي الشامي الفقيه كان شريفاً نبيلاً كامل السؤدد قال مطر الوراق‏:‏ ما رأيت شامياً أفقه منه‏:‏ و قال مكحول‏:‏ هو سيد أهل الشام‏.‏

وقال مسلمة‏:‏ الأمير في كندة رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي ان الله لينزل بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء انتهى وكان رجاء بن حيوة يجالس عمر بن عبد العزيز وكان يوماً عند عبد الملك بن مروان وقد ذكر عنده شخص بسوء فقال عبد الملك‏:‏ و الله إن أمكنني الله منه لأفعلن به ولأصنعن فلما أمكنه الله منه هم بإيقاع الفعل به فقام إليه رجاء بن حيوة المذكور وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد صنع الله لك ما أحببت فاصنع ما يحب الله من العفو فعفا عنه وأحسن إليه وقد تقدم أنه هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يجعل ولي العهد بعده عمر بن عبد العزيز ففعل وكتب ذلك في كتاب ثم ختمه وجمع الناس وأمرهم أن يبايعوا المذكور في باطن الكتاب فبايعوا وهم لا يدرون من فيه ثم كذلك لما مات سليمان جمع الناس قبل أن يعلموا بموته فقال لهم أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب فبايعوا ثم قال لهم أعظم الله أجركم في أمير المؤمنين ثم فتحوا الكتاب فعرفوا أن المبايع فيه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كل ذلك بإشارة رجاء بن حيوة ونصيحته وتوفيقه للصواب وهدايته رحمة الله تعالى‏.‏

وفيها توفي القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي الفقيه‏.‏

قال أبو إسحاق الحواني‏:‏ كان خياراً فاضلاً ادرك أربعين من المهاجرين والأنصار‏.‏

وفيها توفي طلحة بن مصرف الهمداني الكوفي وكان يسمى سيد القراء‏.‏

وقال فيها أبو معشر‏:‏ ما يرى بعده مثله‏.‏

 سنة ثلاث عشرة ومائة

فيها توفي فقيه الشام أبو عبدالله مكحول مولى بني هذيل سمع من طائفة من الصحابة وأرسل عن طائفة منهم قال أبو حاتم‏:‏ ما أعلم بالشام أفقه من مكحول‏.‏وقال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ اعطوا مكحولاً عشرة آلاف دينار وكان يعطي الرجل خمسين وقال الزهري‏:‏ العلماء أربعة سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن بالبصرة ومكحول بالشام‏.‏

ولم يكن في زمنه أبصر وفيها وقيل في العام القابل توفي أبو إياس معاوية بن قرة المزني المصري وفيها توفي في شهر بن حوشب‏.‏

 سنة أربع عشرة ومائة

فيها توفي فقيه الحجاز ذو الأوصاف الملاح الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح المكي مولى قريش سمع من عائشة وأبي هريره وابن عباس وجابر بن عبدالله وابن الزبير وخلق كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة ومالك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير وإليه والي مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما‏.‏

وقال إبراهيم بن كيسان‏:‏ و كان في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحاً يصيح‏:‏ لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح‏.‏

وقال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ ما رأيت أفقه منه‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة وكان من أحسن الناس صلاة‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس وقال إسماعيل بن أمية‏:‏ كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد وقال غيره‏:‏ كان لا يفتر من الذكر‏.‏

قلت وأما ما نقل في بعض كتب الفقه أنه كان يرى إباحة وطي الجواري بإذن أربابهن وما نقل بعضهم أنه كان يبعث جواريه إلى ضيفانه فقد قال بعض أهل العلم الذي أعتقد أن هذا بعيد فإنه لو رأى الحل كانت المروة والغيرة تأبى ذلك فكيف يظن هذا بمثل ذلك السيد الإمام والله‏.‏

سبحانه العلام‏.‏

قلت وينبغي أن يحمل ذلك على بعث الجواري لسماع القول منهن على تقدير صحة ذلك عنه فنحو من هذا ما نقل المشايخ في كتب التصوف في باب السماع أنه كان يأمر جواريه يسمعن أصحابه عند اجتماعهم وفي ذا ما فيه أيضاً فإن صح فينبغي أن يحمل على ما إذا لم يخش فتنة بحضورهن وسماع أصواتهن وإذا قلنا إن صوت المرأة ليس بعورة‏.‏

وفي السنة المذكورة وقيل في سنة تسع عشرة وقيل في ثماني عشرة وهو الذي إليه مال جماعة من المؤرخين - توفي أبو محمد علي بن عبدالله بن عباس جد السفاح والمنصور‏.‏

كان سيداً شريفاً بليغاً وكان أصغر أولاد أبيه وأجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة وكان يدعى السجاد لذلك له خمس مائة أصل وكان يصلي كل يوم إلى كل أصل ركعتين فيجتمع من الجميع ألف ركعة‏.‏

وروي أنه لما ولد أتى علي بن أبي طالب إلى أبيه رضي الله عنهما فهنأه وقال شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته قال‏:‏ او يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فأمر به وأخرج إليه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال خذ إليك أبا الأملاك ويروى أبا الخلائف قد سميته علياً وكنيته أبا الحسن فلما كان زمن ولاية معاوية قال‏:‏ ليس لكم اسمه وكنيته وقد كنيته أبا محمد فجرى عليه هكذا قال المبرد في الكامل‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له‏:‏ غير اسمك وكنيتك فلا صبر لي عليهما فقال أما الاسم فلا وأما الكنية فأكنى بأبي محمد فغير كنيته انتهى‏.‏

قيل وإنما قال عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

إذ اسمه وكنيته كذلك‏.‏

وذكر الطبري في تاريخه أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره وسأله عن كنيته فأخبره فقال لا يجمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد وسأله هل له من ولد فأخبره بولده محمد وكناه أبا محمد‏.‏

وقال الواقدي ولد أبو محمد يعني علي بن عبدالله المذكور في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه والله أعلم بالصواب‏.‏قلت هذا يناقض ما تقدم من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حنكه ودعا له ولا يصح أن يقال فعل ذلك ثم قتل من ليلته اذ ورد أنه حنكه بعد صلاة الظهر‏.‏

وقال المبرد‏:‏ ضرب علي المذكور بالسياط مرتين كلتاهما ضربه الوليد بن عبد الملك‏.‏

إحداهما في تزويجه لبابة بنت عبدالله بن جعفر بن أبي طالب وكانت عند عبد الملك فعض تفاحة ثم رمى بها إليها وكان أبخر فدعت بسكين فقال‏:‏ ما تصنعين بها فقالت أميط عنها الأذى فطلقها وتزوجها علي بن عبدالله المذكور فضربه الوليد وقال‏:‏ انما يتزوج بأمهات الخلفاء ليضع منهم ان مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه فقال علي بن عبدالله‏:‏ انما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها محرماً‏.‏

وأما ضربه إياه في المرة الثانية‏:‏ فقد حدث محمد بن شجاع بإسناد متصل‏.‏

قال‏:‏ رأيت علي بن عبدالله مضروباً بالسوط يدار به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير وصائح يصيح هذا علي بن عبدالله الكذاب فأتيته‏.‏

وقلت‏:‏ ما هذا الذي نسبوا إليك من الكذب قال‏:‏ بلغهم أني قلت إن هذا الأمر سيكون في ولدي والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه واختلفوا في الذي تولى ضرب علي وذكر بعضهم أنه مات مقتولاً‏.‏

وروي أن علي بن عبدالله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان السفاح والمنصور فأوسع له على سريره وسأله عن حاجته فقال‏:‏ ثلاثون ألف درهم علي دين فأمر بقضائها‏.‏

قال ويستوصي بابني هذين خيراً ففعل فشكره وقال وصلتك رحم فلما ولي قال هشام لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينقل إلى ولده فسمعه علي وقال‏:‏ و الله ليكونن ذلك وليملكن هذان وكان عظيم المحل عند أهل المحجاز حتى روي أنه كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلسه إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعاً حوله حتى يخرج من الحرم وكان طويلاً جسيماً ذا لحية طويلة وقدم عظيم جداً لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله مفرطاً في طوله اذا طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبدالله وكان عبدالله إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب ذكر هذا كله المبرد‏.‏

وذكر أيضاً أن العباس كان عظيم الصوت جاءته مرة غارة وقت الصبح فصاح بأعلى صوته‏.‏

واصباحاه فلم تسمعه حامل في الحي إلا وضعت‏.‏

وذكر الحازمي ما تقدم وأن العباس كان يقف على سلع وهو جبل عند المدينة فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم وذلك من آخر الليل وبين الغابة وسلع ثمانية أميال‏.‏وفيها توفي علي بن عبدالله رحمه الله ابن ثمانين سنة وكانت ولادته ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين وقيل غير ذلك‏.‏

وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك أخرج علي بن عبدالله من دمشق وأسكنه الميمة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية وولد له بها نيف وعشرون ولداً ذكراً‏.‏

وفيها توفي أبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم احد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية وهو والد جعفر الصادق لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه ومنه سمي الأسد باقر البقرة بطن فريسة وفيه يقول الشاعر‏:‏ وقال عبدالله بن عطاء ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند محمد بن علي ومن كلامه رضي الله عنه‏:‏ من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه وما عسى أن تكولن الدنيا هل هو إلا مركب ركبته او ثوب لبسته او امرأة أصبتها او أكلة أكلتها‏.‏

وقال إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة وأكدرهم معونة ان نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك قوالين بحق الله تعالى قوامين بأمر الله عز وجل فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت عنه او كما أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء وقال الغناء والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصل إلى مكان فيه التوكل استوطنا‏.‏

قلت يعني وإن لم يجدا فيه توكلا رحلاً عنه وفي معنى ذلك قلت‏:‏ يجول الغنا والعز في قلب مؤمن فإن الذيا جوف القلوب توكلا أقاما فأمسى العبد بالله ذاعناً عزيز وإن لم يلقياه ترحلا وقال رضي الله عنه‏:‏ كان لي أخ في عيني عظيماً وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه عاش رضي الله تعالى عنه ستاً وخمسين سنة ودفن في البقيع مع أبيه وعم أبيه الحسن بن علي والعباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو عبدالله وهب بن منبه اليماني الصنعاني الإمام العلامة وله ثمانون سنة‏.‏

روي عن ابن عباس وقيل عن أبي هريرة وغيره من الصحابة وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز وكان شديد الاعتناء بكتب الأولين وأخبار الأمم وقصص الماضيين بحيث كان يشبه بكعب الأحبار في زمانه‏.‏

وحكى عنه ابن قتيبة قال‏:‏ قرأت من كتب الله اثنتين وسبعين كتاباً وله تصنيف ترجمة بذكر الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم في مجلد واحد وهو من الكتب المفيدة‏.‏

وكان له إخوة منهم همام بن منبه كان أكبر من وهب‏.‏

وروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو معدود من جملة الأبناء ومعنى قولهم فلان من جملة الأبناء‏:‏ ان أبا مرة سيف بن ذي يزن الحميري صاحب اليمن لما استولت الحبشة على ملكه توجه إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس يستنجده عليهم وقصته في ذلك مشهورة وخبره طويل وخلاصة الأمر أنه سير معه سبعة آلاف وخمس مائة فارس من الفرس وجعل مقدمهم وهوز هكذا قاله ابن قتيبة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لم يسر معه سوى ثمان مائة فارس فغرق منهم في البحر مائتان وسلم ست مائة‏.‏

قال أبو القاسم السهيلي‏:‏ و القول الأول أشبه بالصواب إذ يبعد مقاومة الحبشة بست مائة فارس فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الوقعة بينهم وبين الحبشة فاستظهرت الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد وملك سيف بن ذي يزن و وهوز وأقاموا أربع سنين وكان سيف بن ذي يزن قد اتخذ من أولئك الحبشة خدماً فخلوا به يوماً وهو في مصيد له فرموه بحرابهم فقتلوه وهربوا في رؤوس الجبال وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً وانتشر الأمر باليمن ولم يملكوا عليهم أحداً غير أن كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير فكانوا ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام ويقال إنها بقيت في أيدي الفرس ونواب كسرى فيها وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباليمن من قواد ملكهم عاملان احدهما فيروز الديلمي والآخر دادويه فأسلما وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح لما دعى الأسود النبوة باليمن وقتلوه والمقصود من هذا كله إن جيش الفرس لما استوطنوا اليمن تأهلوا ورزقوا الأولاد فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء لأنهم من أبناء أولئك الفرس وكان طاوس العالم المقدم ذكره في سنة ست ومائة منهم وتوفي وهب المذكور بصنعاء اليمن وعمره تسعون سنة رحمة الله عليه‏.‏

 سنة خمس عشرة ومائة

فيها وقيل في التي قبلها توفي الفقيه أبو محمد الحكم بن عتيبة الكوفي مولى كندة كان إذا قدم المدينة أخلوا سارية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إليها قال الأوزاعي‏:‏ قال لي عبدة بن أبي لبابة ألقيت الحكم قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فألقه فما بين لابتيها أفقه منه‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو سهل عبدالله بن بريدة الأسلمي روى عن عائشة وطائفة وفيها توفي الضحاك بن فيروز الديلمي من أبناء الفرس الذين سكنوا اليمن صحب ابن الزبير وعمل له على بعض بلاد اليمن وروى عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم‏.‏

 سنة ست عشرة ومائة

فيها توفي عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي وعمرو بن مرة المرادي وكان حجة حافظاً‏.‏

قال معمر‏:‏ ما أدركت أحداً أفضل منه وفيها توفي محارب بن دثار الدوسي قاضي الكوفة سمع ابن عمر وجابر أو طائفة رضي الله عنهم‏.‏

 سنة سبع عشرة ومائة

فيها توفي أبو الجناب سعيد بن يسار المدني مولى ميمونة وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة التيمي المدني ولى القضاء لابن الزبير وكان مؤذناً في الحرم‏.‏

وفيها توفي فقيه أهل دمشق عبدالله بن أبي زكريا الخزاعي وكان عمر بن عبد العزيز يجلسه معه على السرير وقال أبو مسهر‏:‏ كان سيد أهل المسجد أو قال أهل دمشق قيل‏:‏ بم سادهم قال بحسن الخلق‏.‏

وفيها وقيل في سنة ثمان عشرة توفي الحافظ أبو الخطاب قتادة بن دعامة الدوسي عالم أهل البصرة قال أقمت عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام فقال في اليوم الثالث‏:‏ ارتحل أعمى فقد أبرمتني‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ما قلت لمحدث قط أعده على ما سمعت شيئاً إلا وعاه قلبي‏.‏

وفيها توفي قاضي الجزيرة ميمون بن مهران وكان من العلماء العاملين روى عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما‏.‏

وفيها توفي فقيه المدينة أبو عبدالله نافع مولى عبدالله بن عمر كان نبيلا من كبار التابعين سمع مولاه وأبا سعيد الخمري‏.‏

وروى عنه الزهري وأيوب السختياني ومالك بن أنس وهو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم الضابطين الإثبات وكان قد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصريعلمهم السنن ومعظم حديث ابن عمر عليه دار قال مالك‏:‏ كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد وأهل الحديث يقولون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب بجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة‏.‏

وفيها توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وقيل اسمها أمينة وقيل أميمة وهو الراجح وسكينة لقب لها وأمها الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي وكانت سكينة المذكورة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسهن أخلاقا تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ثم تزوجها عبدالله بن عثمان بن عفان ثم عبدالله بن حكيم بن حزام ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فأمره سليمان بن عبد الملك طلاقها ففعل وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا‏.‏

ولها نوادر وحكايات ظريفة‏:‏ من ذلك أنها سمعت بعض أشعار عروة بن أذينة وكان من اعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة فانكرت عليه أشياء بلطافة وظرافة لا أطول الكتاب بذكرها وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فرثاه عروة بقوله‏:‏ سرى همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيد فتر أراقب في المجرة كل نجم تعرض أو على المجارة تجري لهم ما أزال له قريناً كأن القلب أبطن حر جمر على بكر أخي فارقت بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت‏:‏ و من هو بكر هذا فوصف لها فقالت‏:‏ اهو ذاك الأسيود الذي كان يمر بنا قالوا‏:‏ نعم قالت‏:‏ لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت‏.‏

ويحكى أن بعض المغنين غنى بهذه الأبيات عند الوليدبن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه فقال للمغني‏:‏ من يقول هذا الشعر قال‏:‏ عروة بن أذينة فقال الوليد‏:‏ اي العيش يصلح بعد بكر هذا العيش الذي نحن فيه‏.‏

والله لقد تحجر واسما‏.‏

وكان عروة المذكور كثير القناعة وله في ذلك أشعار سائرة وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال‏:‏ الست القائل‏:‏ ولقد علمت وما الإسلاف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيمييني تطلبه ولوقعدت أتاني لايعنيني وما أراك فعلت كما قلت فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق‏.‏

فقال‏:‏ لقد وعظت يا أمير المؤمنين فما بلغت في الوعظ وأذكرت ما أنسانيه للدهر وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز فمكث هشام يومه غافلا عنه فلما كان فى الليل استيقظ من منامه وذكره وقال‏:‏ هذا رجل من قريش قال حكمة ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته وهو مع هذا شاعر لا اّمن لسانه فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه‏.‏

فقال‏:‏ لا جرم ليعلم أن الرزق يأتيه ثم دعا بمولى له وأعطاه الذي دينار وقال له‏:‏ الحق بهذا عروة بن أذينة فأعطه إياها‏.‏

قال‏:‏ فلم أدركه إلا وقد دخل في بيته فقرعت عليه الباب فخرج فأعطيته المال فقال أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له‏:‏ كيف رأيت قولي سعيت فاكذبت ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق وهذه الحكاية وإن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها‏.‏

ولبعض الشعراء وهو محمد بن ادريس الأندلسي في معنى هذين البيتين وأحسن فيه‏.‏

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لاتدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك وتوفيت سكينة بالمدينة الشريفة رحمها الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ هكذا ذكر موتها بالمدينة في كل تاريخ وقفت عليه خلاف ما يقوله العامة من أنها مدفونة خارج مكة في القبة التي في الزاهر في طريق العمرة‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي ذو الرمة أبو الحارث غيلان بن عقبة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل فجاء الفرزدق فوقف عليه وسمعه فقال ذو الرمة‏:‏ كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس فقال‏:‏ ما أحسن ما تقول‏:‏ قال‏:‏ فما لي لا أذكر مع الفحول قال قصرتك عن غايتهم بكاؤك في الدمن ووصفك للأباعر والعطن‏.‏

وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك ومعشوقته مية ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه الشاعر يرثيه‏:‏ وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما والذي مدحه الأحنف بن قيس بالحلم كما تقدم وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ هذا سيد أهل الوبر ‏"‏ لما قدم عليه في وفد بني تميم وهو أول من وأد البنات غيرة وانفة وكان ذو الرمة كثير التشبيب بمية المذكورة في شعره وإياها عني أبو تمام الطائي بقوله في قصيدة له‏:‏ ما ربع مية معمورا يطوف به غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء‏:‏ قال أبو ضرار الغنوي رأيت مية وإذا معها بنون لها فقلت‏:‏ صفها لي فقال‏:‏ مستوية الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وسم جمال‏.‏

قلت‏:‏ اكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة قال نعم‏.‏

ومن شعره السائر‏:‏

إذا هبت الأرواح من نحو جانب ** فقد هاج في قلبي تشوق هبوبها

هوى تذرف العينان منه وإنما ** هوى كل نفس حيث حل حبيبها

وكان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء وهي من بني عامر بن صعصعة وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي فإذا خرقاء خارجة من خباء فنظر إليها فوقعت في قلبه فخرق أدواته ودنا منها يستطعم كلامها فقال‏:‏ اني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أداوتي فأصلحها لي‏.‏

فقالت‏:‏ اني والله لا أحسن العمل وأني لخرقاء والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على قلت الخرق في اللغة ضد الرفق ومنه قول الإمام الشافعي في الطهارة بالماء قد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير لا يكفي ومن شعره المشار به إلى خرقاء بطريق المبالغة المفرطة قوله‏:‏ وما شبنا خرقاء واهبة الكلا سقى بهما ساق ولم يتبلل باضيع من عينيك للدمع كلما تذكرت ربعا أو توهمت منزل ا وقال أبو الفضل العتبي كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت فقال لي يوما هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة فقلت‏:‏ ان فعلت فقد بررتني فتوجهنا جميعا نريدها فعدل بي عن الطريق بقدر ميل ثم أتينا أبيات شعر واستفتح بيتا ففتح له فخرجت علينا امرأة طويلة حسناء بها قوة وسلمت وجلست تحدثنا ساعة ثم قالت لي‏:‏ هل حججت قط قلت غير مرة فقالت أما سمعت قول ذي الرمة‏:‏ تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء كاشفة اللثام أما علمت أني من مناسك الحج مع كلام آخر حذفت ذكره‏.‏

وإنما قيل لها ذو الرمة لقوله في الوتد أشعث باقي رمة التقليد والرمة بضم الراء الحبل وبكسرها العظم البالي‏.‏

ومن قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه مخاطبا ناقته‏:‏ إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته فقام بفأس بين وصليك حارز إذا بلغتني وحملن رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين وجاء بعدهما أبو نواس فأوضح هذا المعنى بقوله في الأمير محمد بن هارون الرشيد‏:‏ وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام فأحسن في هذا المعنى لأنهما أوعدا ناقتيهما بالذبح وأبو نواس وعدهما بتحريم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار وقابلها بالاحسان لكونها بلغته إلى احسان استغنى به عن الأسفار وإن كان هذا الاستغناء مفهوماً من قولهما قبله لكن هما جازاها بالذبح والانعطاب وهو بالاستراحة من الأسفار وما فيها من العذاب‏.‏

سنة ثمان عشرة ومائة فيها توفي علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب جد الخلفاء العباسية بأرض البلقاء‏.‏

ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان من أجمل قريش وأجلها قال الأوزاعي وغيره‏:‏ كان يسجد كل يوم ألف سجدة ولذلك يقال له السجاد قلت وقد تقدم هذا مع غيره‏.‏

وفيها توفي عمرو بن شعيب وأبو عشانة بالعين المهملة والشين المعجمة والنون‏.‏